logo
×


الوسواس القهري

الوسواس القهري من الأمراض النفسية التي سنتكلم عنها ، وهو مرض وليس من الشيطان ، لأنه لو كان وسواساً شيطانياً لاستطاع الإنسان التخلص منه بالإستعاذة ونحوها ، فالشيطان لا يستطيع التسلط بالقوة ! فرفقاً بمن يصاب به فبعض الناس يكثر من اللوم والعتاب بمن يصاب به وأنه استجاب للشيطان وو.. ! مع أن كل الذي يحتاجه المصاب به أنْ يُعرَّف بأنَّ هذا مرض وأنَّ الاستجابة تزيد منه وتُطوِّل من مدته .. فالمريض بحاجة أن يفهم هذا جيداً ، ويوجه للطريق الصحيح .

الوسواس القهري حسب بعض الدراسات يصيب 3 % من الناس ، وأنَّ ما لا يقلّ عن تسعة ملايين عربي مصاب به .

ومشكلة هذا الاضطراب أنه كثيراً ما يعتبره المريض سراً يخفيه ما بينه وبين نفسه ، لأنه يخجل من أعراضه أو يخاف أن يعتبرها الناس علامة على جنونه أو قلة ثقته بنفسه أو قلة دينه أو استسلامه للشيطان ، خاصة وأن هذا المعنى اللغوي والمعنى الديني للوسوسة ومشتهر بالشكل الذي يجعل الكثيرين من علماء الدين ومن الناس العاديين يخلطون ما بين الوسواس الخناس ” الشيطاني ” وسواس النفس وما بين اضطراب الوسواس القهري الذي هو موضوع مختلف إلى حدٍّ كبير .

ومريض اضطراب الوسواس القهري عادة يعاني من أفكار تسلطية ومن أفعال قهرية ، وهو علة مرضية تصيب بعض الناس ، وتجد المريض عادة يرفضها ويسعى في مقاومتها ، كما يدرك عادة أنها خطأ ولا معنى لها ، ولكن هناك ما يدفعه إليها دفعاً ، ويفشل في أغلب الأحيان في مقاومتها .

وقد تحدث هذه الوساوس دون سبب سابق لها ، كما قد تحدث نتيجة اضطراب عضوي كبعض إصابات الرأس ، أو بسبب اضطراب نفسي كالاكتئاب مثلاً .

وهذه الوساوس القهرية تأتي الإنسان على شكل عبادات ، وكذلك تأتيه في شؤون حياته الدنيوية .

مثال ذلك في العبادات : تكرار المصلي لتكبيرة الإحرام أو قراءة الفاتحة عدة مرات ، أو تكرار غسل عضو من أعضاء الوضوء أثناء الوضوء ، أو الشك المتكرر بأن شيئاً من الحمام النجس يصيب الملابس أثناء وجوده في الحمام ، أو إعادة التطهر من النجاسة عدة مرات حتى مع إدراكه أنه مخطئ في فعله ذلك ، لكن هناك ما يدفعه رغماً عنه إلى إعادة ذلك الفعل مرات عديدة احتياطاً منه أنه ربما قد نسي أنه لم يفعل ذلك .

مثال آخر في غير العبادات : تكرار التأكد من غلق محابس الغاز ، أو غلق الباب مرات عديدة ، أو تكرار غسل اليدين مرات كثيرة بعد لمس جسم ما مثل مقابض الأبواب حتى مع عدم وجود حاجة لغسل اليدين أو كان يكفيه غسلهما مرة واحدة ، لكن هناك ما يدفعه لذلك الفعل بسبب الأفكار التي تهيمن على عقله أنه ربما تكون يداه قد تلوثتا بسبب ذلك الفعل ، ولذلك فإنه يعيد غسلهما عدة مرات .. وهكذا .

فالوسواس القهري يختلف عن الوساوس العابرة التي تأتي كل الناس ، ويختلف عن التشدد الذي يفعله الفرد بإرادته تقرباً إلى الله عز وجل . بل هو مرض تسلطي يتألم منه المريض ، ويشكو لكل أحد من وسوسته ، ويستفتي العلماء في حاله لإدراكه بذلك .

ذكر أبو الفرج بن الجوزي عن أبي الوفاء بن عقيل ؛ أنَّ رجلاً قال له : انغمِس في الماء مراراً كثيرة وأشك هل صح لي الغسل أم لا ، فما ترى في ذلك ؟ فقال له الشيخ : اذهب ، فقد سقطت عنك الصلاة . قال : وكيف ؟ قال : لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” رفع القلم عن ثلاثة : المجنون حتى يفيق ، والنائم حتى يستيقظ ، والصبي حتى يبلغ ” ، ومن ينغمس في الماء مراراً ويشك هل أصابه الماء أم لا فهو مجنون !

فتأمل إلى أيّ حدٍّ وصل الوسواس ! إنه مرض لا يُصدَّق بعض ما يحصل لأصحابه !!

وأما بالنسبة لعلاجه ، فقد تعرَّضت بعض الأحاديث إلى علاج الوسواس القهري مع الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم والتفل على يساره ثلاثاً ؛ منها حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” يأتي أحدكم الشيطان فيقول من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول من خلق ربك ؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينتهِ ” ، وفي هذا الحديث وجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى العلاج السلوكي ” مثل إيقاف الأفكار ” .

ومنها حديث أبي هريرة أيضاً – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إذا وجد أحدكم فيبطنه شيئاً فأشكل عليه أخرج منه شيئاً أو لا ، فلا يخرجنَّ من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ” .

وعن عبد الله بن زيد – رضي الله عنه – قال : شُكِي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : الرجل يُخيَّل إليه أنه يجد الشيئ في الصلاة ، قال : ” لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ” .

فقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم في هذين الحديثين إلى وسائل عملية سلوكية للعلاج وهي منع الاستجابة ، والتي تُعدّ إحدى تقنيات العلاج السلوكي المستخدمة في علاج مرض الوسواس القهري .

الخلاصة من هذه الأحاديث توجه إلى أمران هما : إيقاف الأفكار ، ومنع الاستجابة ، وهو منهج العلاج النفسي المعاصر ، وهذا من أنفع الأدوية حتى يخف الوسواس ويذهب .

وفي رؤية خاصة للدكتور طارق الحبيب في علاج بعض وساوس العبادات قال : ( باستقراء الأحاديث النبوية الواردة فيشأن الوسواس يمكن لنا أن نستشف رؤية علاجية من هديه صلى الله عليه وسلم وهي ما أسميته ” الحواس لا الإحساس ” جربتها فوجدتها تنفع لبعض حالات الوسواس القهري المتعلقة ببعض العبادات . وتكمن هذه الطريقة في دعوة المريض إلى عدم الاستجابة لأي فكرة يحس بها مجرد إحساس نفسي ” الإحساس ” إنْ لم يحس بها بإحدى حواسه الخمس ” الحواس ” كالشم أو الذوق أو السمع أو البصر أو اللمس . فمثلاً إذا أحس أو شعر الفرد ” الإحساس ” بأنه قد أحدث فلا يجزم بذلك حتى يجد ذلك بإحدى حواسه الخمس ” الحواس ” سمعاً أو شماً .

وكذلك الحال إذا أحس أنه لم يغسل عضواً من أعضاء الوضوء فلا يستجيب لذلك حتى يرى بعينه أو يتحسس بيده أن ذلك العضو لم يبلغه الماء .

ومثل ذلك إذا أحس أنه لم ينطق بأحد أحرف كلمة ( الله أكبر ) فلا يقبل ذلك الإحساس ما دام أنه قد سمع ” الحواس ” الكلمة كاملة وإنْ أحس أنه لم ينطق بأحد أحرف التكبير .

وتكمن أهمية هذه الطريقة العلاجية في شأن بعض الوساوس المرتبطة بالعبادات أنَّ الفرد المسلم يختلف عن غيره في أنه يحتاج أنْ يقتنع بالطريقة العلاجية المستخدمة في علاج وساوسه الدينية حتى يستبرأ لدينه ، والتي قد لا تتحقق تماماً عند استخدام العلاج السلوكي الاستعرافي الذي يعتمد أساساً على إلغاء الفكرة من خلال إيقافها ومنع الاستجابة لها ، في حين أنه قد يتحقق بنسبة أكبر عند استخدام هذه الطريقة العلاجية المقترحة ) .

ثم قال : ( والذي يظهر لي أنَّ جدوى هذه الطريقة المقترحة يتبين بشكل أساسي في علاج بعض الوساوس القهرية المرتبطة بالعبادات شرط ارتباطها بإحدى الحواس الخمس وعدم جدواها في غير ذلك من الوساوس القهرية التي لا ترتبط بإحدى تلك الحواس ، إلا أنه ربما يكون من المجدي السعي في توظيف مفهوم هذه الطريقة المستمدة من التوجيه النبوي في علاج الوساوس القهرية الأخرى ) .

وقد وجه أبو زيد البلخي في القرن التاسع / العاشر الميلادي ! إلى أنواع من علاجات الوسواس القهري ، وعلَّق  على كلامه الدكتور وائل أبو هندي ؛ ومما قاله :

( أنْ يحرص المريض بالوسواس على تجنُّب الوحدة والانفراد ؛ لأنَّ من شأن الوحدة أنْ تُهيِّج على الإنسان أحاديث النفس ) .

قال الدكتور وائل : وهنا تظهر أهمية دور الجماعة الاجتماعية في التَّسْرِية عن المريض وإعانته على الانشغال عن وساوسه ، كما تبرز أهمية العلاج الجمعي ، والذي ثبتت فاعليته في السنوات الأخيرة من القرن العشرين في علاج اضطراب الوسواس القهري .

قال البلخي : ( الحرص على شغل أوقات الفراغ بالعمل الصالح وما يفيد الناس ) .

قال الدكتور وائل : ومع ذلك فإن البلخي لا يفوته أن يوصي هؤلاء المرضى بالترفيه عن النفس لمن استطاع إلى ذلك سبيلا ، وهذا منهج الاعتدال والوسطية الذي يدعو إليه الدين الإسلامي ، كما ينصح به علماء الصحة النفسية في نفس الوقت .

قال البلخي : ( أنْ يستعين المريض بمن يثق به في مودتهم له وشفقتهم عليه فيعينوه على تكذيب الوساوس ) .

قال الدكتور وائل : وأبو زيد البلخي هنا إنما يعود إلى النقطة المهمة التي بدأ منها برنامجه العلاجي السلوكي المعرفي لعلاج الوسواس القهري ، وهي الاستعانة بمن يحبهم المريض ويثق في رأيهم لإيقاف الأفكار التسلطية المزعجة وتكذيبها كالطبيب المعالج وشريك الحياة أو أحد الأخوة ، وهذا متعارف عليه الآن في العلاج النفسي للوسواس القهري .

وذكر أشياء أخرى ..

قال الدكتور وائل : ولا يسعنا في ذلك إلا القول بأنَّ منهج أبي زيد البلخي في علاج اضطراب الوسواس القهري قريب جداً من مناهج العلاج التي يستخدمها المعالجون النفسيون في شتى أنحاء المعمورة الآن .

قال : أما الطب النفسي وعلماء النفس الغربيون فلا يذكرون شيئاً من كل ذلك الذي ذكرته عن العلاج السلوكي المعرفي في الطب الإسلامي .

قصة : أنا طالب وموظف في نفس الوقت وأسكن وحدي وذلك بسبب ظروف دراستي ، وأنا على وشك التخرج إن شاء الله ، مشكلتي أنني منذ فترة انتابني اكتئاب وضيق في الصدر وسواس وكسل وخمول عجيب ، وبدأت تراودني أفكار وتساؤلات عجيبة وإحساس بأنني أول مرة أرى الناس والبشر ! وأيضاً إحساس بأنني أحلم ولست مع البشر ، وبأنني أجهل من أنا ؟ تساؤلات كثيرة وغريبة يكاد عقلي يفرغ منها ، وما زلت أعاني منذ قرابة الشهر هذه الأعراض التي لم يسبق أن مرت علي في حياتي كلها ، علماً بأنني تعرضت لصدمات نفسية وعاطفية في آنٍ واحد منذ فترة . وسألت بعض الأخوة منهم من قال هذا من الشيطان ، ومنهم من قال بأنها عين حاسد ! ولم أجد لها حلاً ، علماً بأنني بدأت التقرب إلى الله أكثر وأكثر خلال فترة معاناتي هذه ووجدت بعض الراحة عندما أذهب إلى المسجد وأصلي .. أرجو مساعدتي .

هذه القصة لهذا الشاب تحكي مرض الوسواس القهري بعينه ! فهي أعراض وساوس قهرية شديدة ، وقد أحسن هذا الشاب عندما توجه إلى الله وتقرب إليه أكثر وأكثر ووجد في ذلك بعض التحسن .

وأقول لغيره ممن يعاني من الوساوس القهرية .. هل جربت القرب من الله ؟ والعمل بطاعته ، فهي خير وسيلة وخير معين بعد الله عز وجل . ( 1 ) .

 

( 1 ) المراجع :

  • الوسواس القهري مرض نفسي أم أحاديث شيطانية : د ؛ طارق الحبيب .
  • الوسواس القهري بين الدين والطب النفسي : د ؛ وائل أبو هندي .
0 0 vote
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments